قال ابن القيم في الجواب الكافي : 'إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ليُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّد, ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له والدعوة له' هذه قاعدة عظيمة تبين أن التوحيد هو الغاية من خلق الله تبارك وتعالى للثقلين بل والسموات والأرض، وأنه الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ومع هذا كله ترى كثيراً من المسلمين قد يتكلم في كل شيء إلا في هذا الباب العظيم.
قال رحمه الله: 'ويكون الدين كله لله, والطاعة كلها له, والدعوة له كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ [الحجر:85] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] '.
فالمقصود أن يَعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه، وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات, ولا يريدون أن يُعَرِّفوا الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العالمين, ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله؛ فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة, وهي تعريف بالله، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي؛ وهي أيضاً تعريف بالله وبصفاته.
قال رحمه الله: 'وكما قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ -فعلل مرة أخرى- لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]' فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، وإنما شرعت هذه الشرائع, وفرضت هذه الفرائض؛ ليُعْرَفَ الله تبارك وتعالى, ويعبد وحده لا شريك له.
قال: 'فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر...".
جمع رحمه الله بين الخلق والأمر لأن الله قد جمع بينهما بقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]'.
والقصد هو الغرض والحكمة، والخلق: خلق العباد، والأمر: أمرهم ونهيهم، لأن الله تعالى لم يتركهم سدى -والسدى هو الذي لا يُؤمر ولا يُنهى- بل إنما خلقهم ليأمرهم وينهاهم، فابن القيم رحمه الله يقول: "فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يُعرف بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل.. ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقِوامه، وإن الشرك لظلم عظيم" كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم : يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم الشرك، كما أن أعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل، وأعظم العدل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم بعد ذلك العدل فيما وليه الإنسان حتى بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته } ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في أهليهم وما وُلُّوا }.